“احتفظ بزمنك الجميل حين تطأ طين الواقع البائس”. عبارة تُسْتَهلُ بها رواية “ليلاف: الثلج الجاف” لتكون عتبة القارئ في ولوجه إلى عوالم سرد شاق ومُجهد ينوء بحمل آلام عظيمة لا يزال صدى أنينها يتردّد إلى يومنا، وجراح نازفة لم تندمل لملايين السوريين الذين جرفت -ولا تزال آلة القتل والفساد- أحلامهم ومستقبلهم خلال ما يربو على عقد من الحرب الدامية.
وفي هذه المرة تعود الروائية السورية ابتسام تريسي (مواليد إدلب 1959) إلى ديارها الأولى، فتروي حكاية الشمال السوري الذي تحوّل خلال سنوات من الحرب (2013-2018) إلى أعنف رقعة صراع جلَبت خواتيمه واقعا إنسانيا هو من الأشد بؤسا في العالم.
رواية شاقة بحمولة كبيرة أجادت تريسي التعامل معها فنيا، فأفرغتها عبر طبقات متعددة من السرد تكشّفت من خلالها الأبعاد الإنسانية والسياسية والاجتماعية لما حدث في تلك المنطقة عقب تحوّل الثورة السورية من السلمية إلى المسلّحة.
ففي “ليلاف” نحن أمام مشهد قاتم تسطو عليه الفوضى المنظَّمة بسلاح عشرات الفصائل مختلفة الانتماء، ويملؤه عبث فائض قادَ إليه فساد بعض تلك الفصائل وتضارب أجندات الدول الداعمة لها.
وربما تكون تلك القتامة التي عمّت المشهد هي التي دفعت الروائية للإحاطة به، ومحاولة تجاوزه عبر مقاربة سردية تفتح أمام القارئ أفقا لاستشراف القادم بناء على ما حدث في الماضي.
مشروع ابتسام تريسي يتوجه إلى تقديم صورة متكاملة عن السياق الذي أُنتج فيه العنف، وليحمّله لجهة ما دون غيرها أحيانا، وفي الغالب الأعم ليقدم صورة متكاملة عن السياق الذي أُنتج فيه هذا العنف، فتصبح سردياتهم المصحوبة بالانفعالات الوجدانية الصادقة بمثابة إدانة لكل من شارك في إنتاجه.
وتبدو رواية ليلاف -في مستوى من مستوياتها- استكمالا لمشروع ابتسام تريسي الممتد إلى 16 رواية، والذي كان شاغلها فيه منذ البداية قضايا الإنسان السوري، وسِيَر مكوناته منذ نشوء الدولة الوطنية عقب الاستقلال، ومرورا بكبرى التحوّلات السياسية والاجتماعية التي طرأت عليها خلال عقود، ووصولا إلى حاضرها في بلاد مفكّكة اجتماعيا وجغرافيا.
ويشهد الفصلان الثاني والثالث على ولوج شخصيات جديدة مسرح الأحداث، وعلى تصاعد وتيرة العنف في مختلف مناطق الشمال والشمال الشرقي مع ظهور تنظيمات إسلامية متطرفة، وفصائل مسلحة غير منضبطة تسهم في تعزيز العنف والفوضى في المنطقة.
يشهد “شتاء الشمال الطويل” على حبكة تفكيك بنية القهر في المجتمع السوري، حيث تعكس حكاية شام وديجوار وليلاف وتيم ونازلي ومحمود تحوّلات سيكولوجية عميقة متماثلة نكون أمام محاولة رمزية لتفكيك بنية القهر في المجتمع السوري.
اختارت تريسي لزمن روايتها فصل الشتاء فصلا وحيدا يتسرّب صقيعه إلى أجساد شخوصها المتعبة من التنقّل في مدن الشمال المتهاوية، والخاوية إلا من المكائد ورائحة البارود وقصص الموت اليومي. اختيار فنّي يعكس تشاؤم الروائية من شتاء طويل خيّم على الشمال السوري حتى صار أشبه بـ”الثلج الجاف”، والناس هناك في انتظار “ربيع” طالت قيامته.
اشترك في نشرتنا الإلكترونية مجاناً
اشترك في نشرتنا الإلكترونية مجاناً.