جلست الطفلة إشراقة مصطفى في سبعينيات القرن الماضي في مدينة كوستي السودانية التي تقع في ملتقى طرق بين شمال وشرق وجنوب السودان، تستجدي بإلحاح جارهم في الحي الزبير خميس ليعيد عليها للمرة الألف بعد المئة حكاية الأميرة مندي بنت السلطان عجبنا.
تقول إشراقة: “كان العم خميس يحكي لي عن الجبال وعن موطنه الأول أم حيطان وبالطبع عن الفارسة مندي التي تشكلت من جموحها خيالاتي وصوري الذهنية عن امرأة سودانية جسورة غفل عنها تاريخنا مع سبق الإصرار والترصد”.
ويفصل بين منزل العم خميس ومنزل أسرة إشراقة حائط صغير لم يمنع الجسد النحيل للطفلة ذات السبعة أعوام من تسوره والقفز إلى الناحية الأخرى.
فُتنت مصطفى بالأميرة مندي وبشجاعتها منذ نعومة أظافرها وتلبست روحها، وأصبحت مندي حلمها الذي تحقق بعد 30 عاما من هجرتها إلى فيينا عاصمة الموسيقى والفن.
نالت درجة الدكتوراه في الاقتصاد السياسي وشرعت فورا في تحقيق حلمها بتأسيس منظمة “بنات مندي” أو “منظمة مندي لثقافة السلام” وإدارة التنوع لدعم وتشجيع النشاط الثقافي النسوي العربي في المهاجر وداخل السودان.
تقول الدكتورة إنها تولت رئاسة منظمة “مندي لثقافة السلام وإدارة التنوع” -التي يقع مقرها في العاصمة النمساوية فيينا- منذ تأسيسها عام 2021، وتم اعتمادها منظمةً عالمية في يناير/كانون الثاني 2022.
للمنظمة عضوية في النمسا وفي السودان وتم اختيارها ضمن 5 منظمات طوعية فاعلة بالنمسا.
وتستطرد الدكتورة مصطفى: “ألهمتني قصة مندي لتأسيس المنظمة؛ فمندي هي ابنة السلطان عجبنا بن أروجا بن سبأ سلطان قبيلة النوبة “النيمانغ” في منطقة الدَلَنْج (مدينة سودانية تقع في ولاية جنوب كردفان) جنوب غرب السودان”.
“تشكلت أسطورة الأميرة مندي في البسالة والشجاعة والتصميم في الربع الأول من القرن الـ20 بتصديها للاستعمار البريطاني وخلّد التاريخ بطولاتها في مارش عسكري شهير لفرقة موسيقى دفاع السودان واستلهام بسالة مندي لرفع الروح المعنوية للجنود والمقاتلين بالقوات المسلحة”، تضيف رئيسة منظمة “مندي لثقافة السلام وإدارة التنوع”.
وتتابع: “في العام 1908، قام المستعمر الإنجليزي بالهجوم على جيش السلطان عجبنا في معركة “ألفوس”، وأمام السلاح الناري تضاءلت فرص جيش النيمانغ في الانتصار ولاحت بوادر الهزيمة ووصلت الأنباء إلى القبيلة؛ حيث ابنة السلطان الأميرة مندي، بقرب هزيمة جيش أبيها. وصممت مندي على إرسال تعزيزات تحت قيادتها لنصرة جيش قبيلتها، فربطت طفلها الرضيع خلف ظهرها على طريقة نساء قبائل النيمانغ وزحفت حتى أدركت أرض ألفوس وقاتلت بشجاعة منقطعة النظير”.
وتستطرد الدكتورة بالحديث عن مندي بحماس قائلة: “كانت بجانب مشاركتها في القتال والتي تسببت في فقدانها لطفلها الرضيع تداوي الجرحى، وترفع من روح الثوار المعنوية، وتطبخ لجيش النيمانغ. انتهت المعركة بأسر السلطان عجبنا وإعدامه لاحقا في العام 1917 وعادت مندي إلى قبيلتها زعيمة خلفا لأبيها الأسير”.
تصف الناشطة الحقوقية السودانية إنجازات منظمة مندي بأنها كبيرة مقارنة بعمرها القصير؛ “فورشة عمل “ليس سوانا يكتب سيرتنا” مثلا تحولت لكتاب “نون المنفى، سيرة نساء من هناك”، والذي شارك في كتابته كاتبات من سوريا، زينب خوجة وماريا عباس وفرحة خليل ومن السودان الدكتورة مريم وقيع الله وشادية عبد المنعم”.
كما أصدرت الورشة كتابا بعنوان “سيرتنا أجنحة ما وراء الحدود” بقلم الكاتبة السورية إتيان بكلر، وكتاب “غربة الروح” للكاتبة السورية بشرى مجذوب والذي صدر عن دار صفصافة بالقاهرة والتي تبنت أيضا نشر كتابين ألفتهما الدكتورة مصطفى هما “جداتنا ثراء الذاكرة” و”أنت جميلة”، وهو كتاب يناقش قضايا ومعايير الجمال.
وصدر عن أنشطة منظمة “مندي” أيضا كتاب “سوداتريات قهوة في ذاكرة المنافي” للكاتبات الإريتريات، خديجة نور وفاطمة أحمد وأسمهان النعمان والكاتبات السودانيات آمال الصادق وفاطمة العبقري وبت المنى.
كما نظمت “مندي” -بمشاركة المهاجرات العربيات في أوروبا- مؤتمرين في فترة جائحة كوفيد-19، الأول: “المرأة السودانية؛ التنوع وقضايا السلام والتنمية”، والذي شارك فيه 40 امرأة من عدد من دول العالم وتم تبادل الخبرات والتجارب مع ناشطات كنديات، وبريطانيات، ومن دول أفريقية وعربية عديدة؛ مثل بمان وفايزة حربي من مصر وسوسن أمين وندي الخوام من العراق وحرية على جامع من إريتريا.
أما المؤتمر الثاني، فكان عن الإبداع وإعادة إنتاج المعرفة وتم إهداؤه لروح القاص السوداني الراحل عيسى الحلو وتناول العديد من القضايا مثل حقوق الملكية الفكرية، ومشاكل النشر، وإعادة إنتاج المعرفة.
وبحسب رئيستها، فإن المنظمة بادرت أيضا إلى تقديم منحة أطلقت عليها اسم “منحة ملكة الدار للخبز والورد” تكريما لأول روائية سودانية الأستاذة ملكة الدار محمد عبد الله.
كما أقامت المنظمة منذ تأسيسها عام 2021، ثلاث ورش بالتعاون مع منظمات محلية في كل من كوستي والدمازين وبورتسودان، شارك فيها 65 شابا وشابة تحت شعار؛ “الكتابة لأجل التغيير الاجتماعي”.
تقول الدكتورة مصطفى إن مشاريع “مندي” حققت نجاحات لاقت إشادة إعلامية، مشيرةً إلى أنها تهدف “لإبراز دور المهاجرات والمهاجرين في دعم بلدانهم”.
وتختم: “بعد انفجار الحرب الحالية في السودان بين الجيش القومي وقوات الدعم السريع، ركزت المؤسسية على مشروع أطلقت عليه اسم “من فيينا سلام للسودان، حيث نظمت فعاليتان بتمويل من منظمات نمساوية ركزت فيهما على دور الفنون في ترسيخ ثقافة السلام”.